EgyFire Admin
عدد المساهمات : 104 تاريخ التسجيل : 15/05/2010 العمر : 39
| موضوع: حكــــــمة الموت السبت مايو 15, 2010 9:48 am | |
| “الموت هو الحقيقة الثابتة والفاجعة، الحقيقة التي تُؤرق وتحيِّر وتزعزع ماعداها من حقائق، بما في ذلك حقيقة الحياة. فما قيمة أية حقيقة دنيوية يـمحوها الموت ويـذروها كـما تمـحو الـرياح وتـذرو كـل نقش أو أثـر على الرمال؟ …. هذا مثال لصرخة الإنسان وألمه حين يقف مشدوها عاجزا أمام أُمِّ الحقائق وأخطرها: الموت. ولايجدي شيء أمام هذا القدر الغامض: وإذا الـمَـنِيـة أنْشبــت أظفارهـا ألْفيـتَ كـل تَـميمـة لاتـنـفع حتى التفلسف الذي حاوله الأديب الوجودي “كامو” -في روايته “الغريب”- للتغلب على الموت لايقنع أحدا، فالموت لايمكن تجاهله ولاتحدّيه. وكما قال شورون: “على الرغم من أن الإنسان قد يدرك تفاهته فإن التفكير في الفناء هو أمر يصعب احتماله”. حدة المشكلة في العصر الحديث ومن الطبيعي أن يهاب الإنسان -من حيث هو إنسان- الموت، ولذلك تجده أحيانا يتعلق بالحياة حتى في أشد حالات بؤسه. لكن وعي الناس بثقل الموت ازداد حدة في هذا العصر، خصوصا في الحضارة الغربية التي وجدت نفسها في مأزق كبير بتركيزها على القيمة اللامتناهية للكائن البشري الفرد، فلم تستطع التوفيق بين هذه الفكرة الأساسية وبين فناء الفرد الذي يبدو -لها- شاملا في الموت. من جذور التخوف الغربي من الموت من أهم هذه الجذور: التصور اليوناني القديم لعالم ما بعد الموت، والذي أثر طويلا في الإنسان الغربي، برغم ظهـور المسيحية وتلطيفها لهذا التصور المتشائم. ومن أبرز مصادر هذا التصور في التاريخ الإغريقي: الأوديسيا، فهذه القصة الطويلة المصوغة شعرًا، والتي تُـنسب لهوميروس، تتضمن وصفا عاما لمصير أرواح الموتى وشكل حياتها وحركتها، وهي صورة حزينة ومرعبة ومظلمة عن العالم الآخر، حتى بالنسبة للأخيار من الموتى. والجدير بالذكر أن هذه الصورة كانت سائدة قبل ذلك في الشعوب الشرقية، خصوصا بمصر وبلاد الرافدين. وأفلاطون نموذج لهذا القلق من الموت، لذا بحث كثيرا مسألة بقاء الروح، وقدَّم أسطورة عن عالم ما بعد الموت مستلهمة من الأوديسيا، كما تناول موضوع الموت بصفة عامة. وغير هذا توجد أسباب أخرى في الخوف من الموت يشترك فيها أكثر الناس، وقد لـخـَّصها ابن مسكويه في هذا النص: كلام الفيلسوف “ابن مسكويه” حول الموت قال: “إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري الموت على الحقيقة، ولا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه، فقد انحلت ذاته، وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقى موجودا، وليس هو بموجود فيه، كما يظنه من يجهل بقاء النفس وكيفية المعاد. أو لأنه يظن أن للموت ألما عظيما، غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه، وكانت سبب حلوله. أو لأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت. أو لأنه متحير لايدري على أي شيء يقدم بعد الموت أو لأنه يأسف على مايخلفه من المال والمقتنيات. وهذه كلها ظنون باطلة لاحقيقة لها. قصور العلم عن كشف لغز “ما بعد الموت“ ولا يستطيع العلم أن يجيب عن هذه المخاوف التي أشار إليها ابن مسكويه، مثله في ذلك مثل التفكير العقلاني المحض. ولهذا فإن علم الباراسيكولوجيا المعاصر- وهو أقرب العلوم “التجريبية” إلى هذا الموضوع- لم يقدم لنا شيئا ذا بال عن الموت وماوراءه. ولذلك يظل الدين مصدرنا الأساس في هذه القضايا وماشابهها، فماذا يقول لنا؟ المـوت في الإسـلام إن الموت - في الديانة الإسلامية- مجرد رحلة عابرة، وليس شيئا ثابتا أصيلا في الوجود؛ حتى وجود الإنسان في القبر هو وجود حي لاموت فيه، ومع ذلك فهو مؤقت ينتهي بالحشر والانبعاث. ولذلك يقول العلماء: الموت معناه تغير حال فقط. وفي الأثر: إنكم خلقتم للأبد، وإنما تنقلون من دار إلى دار. قال القرطبي:”الموت ليس بعدم محض ولافناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار”. حقيقة الموت أما حقيقة هذا التغير وماهيته فمن شؤون الغيب المستور، يقول أبو حامد الغزالي: “…نعم ، لايمكن كشف الغطاء عن كنه حقيقة الموت، إذ لايعرف الموت من لايعرف الحياة، ومعرفة الحياة بمعرفة حقيقة الروح في نفسها وإدراك ماهية ذاتها، ولم يؤذن لرسول الله أن يتكلم فيها، ولا أن يزيد على أن يقول: الروح من أمر ربي. فليس لأحد من علماء الدين أن يكشف عن سر الروح وإن اطلع عليه، وإنما المأذون فيه ذكر حال الروح بعد الموت“. النوم أخو الموت وإذا كانت الحقيقة العميقة للموت مجهولة لنا، فإن الشارع ضرب لنا مثلا قريبا إلينا، فقال النبي الكريم:”النوم أخو الموت“. ولذلك جاء في القرآن الكريم قِران بين الأمرين: )الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون(. نحن في المنام نخرج من إطار الزمان، أو -على الأقل- من إطار الزمان العادي، وكذا من العالم الذي نعرفه، فلا نعود نحس به، ولذلك لايخضع الإنسان- في نومه- لقوانين العقل ولا لمنطق عالم الشهادة والدنيا. فهذا يقدم لنا فكرة عن انتقالنا بالموت من حال إلى حال. وكذلك النوم نوع موت، وطالما كان هذا النوم لغزا حار فيه العلماء لحدود الساعة؛ فسيظل الموت لغزا آخر، أكبر وأعقد. الموت : قيامة الإنسان وإذا كان الكون سينتهي - كما يخبرنا القرآن- بانهيار شامل يكون إيذانا بمرحلة جديدة في الوجود، يسميها الكتاب الكريم بـ:”الآخرة”، كما يسمي هذا الانهيار بـ “القيامة”… فإن موت الفرد بمثابة إعلان لقيامته هو، وهي قيامة خاصة تسبق يوم القيامة الكبير. ولذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: الموت القيامة، فمن مات فقد قامت قيامته. أول مراحل الآخرة إن الموت- هذه القيامة الصغيرة- هو أول منازل الآخرة، كما أنه آخر مراحل الحياة الدنيا، ولذلك فهو فاصل مابين الحياتين وحدُّ ما بين العالمين. فبالموت تبدأ حياة البرزخ، وهي عالم القبر، ثم البعث، فالحشر، فالحساب، وأخيرا يستقر كل واحد في الجنة أو في النار، في خلود أبدي. ونظرا لخصوصية الموت على هذا الوجه-أعني كونه أول مراحل الحياة الأخرى- قال النبي “ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه“. وفسّر ذلك في خبر آخر: “إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشد“. الدخول في عالم الغيب ولما كان الموت تغّير حال ليس إلا، ورجوعاً إلى عالم الغيب -فإنه تنكشف للإنسان- بموته- أشياء كثيرة من المغيبات التي سُترت عن حواسه. ولذلك يقال له -كما أخبرنا القرآن-: )لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد(. فالمعنى “أن البصر يحتد عند الموت فيعاين العبد جميع ماينتهي أمره إليه، وهو اليقين المشار إليه بقوله: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)”. ولما كان العالم الآخر أجلّ وأكبر، فيه تنكشف للإنسان حقائق الوجود… مثّل السلف الدنيا بالنوم والموت بالاستيقاظ منه، فقالوا: “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”.. وكتب رجل إلى أخ له: “أما بعد، فإن الدنيا حلم والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، ونحن في أضغاث أحلام، والسلام”. وقال الغزالي في هذا المعنى أيضا: “ينكشف له بالموت ما لم يكن مكشوفا له في الحياة، كما قد ينكشف للمتيقظ ما لم يكن مكشوفا له في النوم“. الموت نهاية للطغيان الآدمي لقـد خلق الله هذا العالم لأجل تحقيق حكمة الابتلاء، فالدنيا دار امتحان واختبار لا دار قرار للإنسان، لهذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون لهذا الابتلاء أمد، فينتهي بالموت، ومعه ينتهي طغيان الإنسان وتنقضي كبرياؤه الفارغة. لهذا جاء في الحديث: “لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه: الفقر والمرض والموت، وإنه مع ذلك لوَثَّاب.”فهذه الأشياء -والموت أبرزها- تحدّ من أوهام الإنسان وأحلامه في العظمة والكبرياء، كما في الحديث الآخر:” إن الله تعالى أذل بني آدم بالموت“. ولهذا كان من وظائف “الموت” بالنسبة للأحياء من الناس: تذكيرهم بحدودهم وتنبيههم على حقيقة عبوديتهم لخالقهم. وفي هذا المعنى روي: “كفى بالموت واعظا”. الرؤية الإسلامية في الموت تفاؤلية ورغم ماسبق فإن روح الدين في هذا الموضوع روح متفائلة وإيجابية، ولذلك ثبت -في تاريخ البشرية الطويل- أن الإنسان ما وجد عزاء في قلقه الدفين من الموت كما وجده في التدين. ومن خصائص عقيدة الأديان السماوية عن عالم ما بعد الموت أنها قدمت البعث كمجموعة بعوث فردية، أي أن الإنسان لاتعود روحه إلى شيء كبير تذوب فيه، مثل “العقل” لهيجل، أو “الإنسانية” لكونت، أو “روح الكون”… ونحو ذلك من التصورات الفلسفية… بل الإنسان -في الأديان السماوية- يعود إلى نفسه، فهو قد لايعود بالجسد نفسه الذي كان له، لكن وعيه وذكرياته… تبقى، أي أن شخصيته المستقلة لاتنقرض. بل إن هذه الأديان -خصوصا الإسلام- تقدم البعث بوصفه بعثا عاما لكل الإنسانية: الأقارب والأبناء والأصدقاء… كلهم سيبعثون على صعيد واحد. لهذا كان المستقبل الأخروي الإسلامي هو الأكثر تفاؤلا وانسجاما مع الرغبة العميقة للإنسان في الخلود الشخصي… من كل التصورات الدينية والفلسفية الأخرى. ولهذا لا يكره المؤمن الموت ولا يرتعب منه، فهو يدرك أن الدنيا مرحلة عابرة، وأن موته هو خروج من عالم إلى آخر أوسع منه وأطيب، كما قال الصحابي عبد الله بن عمرو: ” إنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه أو روحه مثل رجل بات في سجن فأخرج منه فهو يتفسح في الأرض ويتقلب فيها”. وقد أحسن الغزالي التعبير عن هذا المعنى حين قال: “واعلم أن المؤمن ينكشف له عقيب الموت من سعة جلال الله ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن والمضيق، ويكون مثاله كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف لايبلغ طرفه أقصاه، فيه أنواع الأشجار والأنهار والثمار والطيور، فلايشتهي العود إلى السجن المظلم”. هذا عن المؤمن، ويظل الموت حقيقة قاسية على منكري الغيب خاصة. فتبارك الله العظيم، الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا وهو العزيز الغفور. | |
|